قيل ان في البدء .. كانت الارض تدور بصورة اسرع مما هي عليه الان وكانت تترنح كالنحلة الدوارة التي يلعب بها الاطفال .. بالتاكيد لم تكن كروية بهذا الشكل الذي نعهده ..
وقيل ايضا انه كان هناك ذلك الجرم المتوهج المتالق كالبللور .. يضوي كالف شمس وليدة .. ينبض كقلب طفل يتواثب .. يمضي في رحلته اللانهائية في ذلك الكون المتسع .. غير معلوم بالتحديد من اين اتي او الي اين يمضي ..
وقيل ايضا انه مر هذا الجرم قريبا من الارض بسرعتها الجنونية التي كانت تدور بها وجاذبيتها المروعة انذاك فتشظت منه قطع صغيرة .. كالبللور .. تساقطت نحو الارض في اماكن شتي .. وازمنة مختلفة ..
وقيل ايضا ان هذه البللورات الضائعة تختبيء في صدور اولاءك من بنات حواء .. الحارقات .. التي يكتوي بهن .. ويتعذب من حولهن .. رغم انهن لسن الاكثر جمالا .. او يمتلكن اكثر الاجساد فتنة واشتهاءا ... لكن كن يمتزن بجمال الروح ..
كل من عرفهن كان يشعر بتلك الشمس الدافئة الضيائة التي تكمن في قلوبهن .. وكانت لهن تلك الجاذبية الخاصة .. والوجود الاسر .. والقدرة علي اشعال حرائق الحب اينما ارتحلن واينما ذهبن .. ودوما كن يحترقن في النهاية بسرعة .. لان بنات حواء دوما يدفعهن ظمأ المحبين لهن الي الغرور .. الي حرق تلك البللورات الرقيقة بسرعة وطيش ..
وفي كل يوم يمضي كانت تحترق احداهن بضياء ما بداخلها او كانت هي من تحرق ذلك الضياء ..
وكن يثرن من حولهن الف حيرة .. والف سؤال .. لم هن هكذا .. لم يغلفهن ذلك الجمال الخاص .. وتلك الروح ..
ودّعت الأصدقاء أول أمس بعد اللقاء و ذهبت من أجل الكورس .. رحلت فى السادسة و كان الطريق غير مزدحم لأجد نفسي قرب سان إستفانو بعد 10 دقائق .. فى حين إستغرقنا 45 دقيقة للوصول من بحرى للشاطبى !!!
السادسة و عشر دقائق و موعد الكورس فى السابعة .. هناك وقت كاف للتمشية .. ذهبت لذلك الشارع الهادىء الموازى لخط الترام .. البنايات على جانبين تحجب تيارات الهواء الباردة و الجو منعش و لا يوجد أحد سواى تقريبا رغم أن الوقت مازال مبكرا .. أحب هذا الجو .. الشارع كله ملكى و لا يقطع الصمت إلا خطوات قدمى .. شعور عام بالشجن لكنى أتمنى أن أمشي إلى ما لا نهاية .. أتمنى أن تستمر اللحظة إلى الأبد ...
من وقت لآخر تقطع الصمت خطوات أحد المارة .. أشعر بالخوف للحظات حتى يمر .. ظلى الطويل ممتد أمامى و كذلك ظل أى شخص يأتى من خلفى .. ربما تمر مجموعة من الطلبة يملئون الشارع بصخبهم لدقيقة و أظل أنا متحفزة و أعصابى مشدودة حتى يرحلوا .. لماذا سُلب منا الشعور بالأمان ؟! لماذا أصبح الخوف هو الأساس و الأمان شىء إستثنائى ؟! .. لماذا لا يحق لى الإستمتاع بالتمشية فى تلك الأجواء التى أحبها ؟ ...!
كنت جائعة .. لم آكل أى شىء طوال اليوم بإستثناء الأيس كريم .. تذكرت ذلك المخبز القريب فى لوران .. كان يصنع أفضل كرواسون بالجبنة تذوقته فى حياتى .. كان هذا منذ سنوات و المشكلة إنى لا أمر من هنا كثيرا حتى أستطيع شراء كرواسونى المفضل .. مررت على مكان المخبر فلم أجده كما توقعت وجدت مجموعة أخرى من المحلات ..!
عندما مررت بسان ستيفانو لمحت معهد الموسيقى الأوروبى فى أحد الشوارع الجانبية .. تذكرت إعلانات هذا المعهد منذ زمن بعيد و كم تمنيت أن أدرس به ..
منذ حداثتى و أنا أتمنى أن يكون لدى بيانو .. ربما لم أكن قد رأيت أى بيانو على الحقيقة عدا التليفزيون لكنى كنت منبهرة به جدا .. و أتذكر نفسي - و عمرى كان لا يزيد عن 4 سنوات - و أنا أمرر أصابعى على أى منضدة أمامى و أتخيل أنها بيانو أعزف عليه .. .. أفعل هذا أحيانا حتى الآن ...
لكن كنت أتصور دائما أنه شىء عسير المنال .. كنت أتصور أن مكانه فى المسارح و القصور فقط فلم أطلبه قط .. لذلك نقلت أحلامى على آلة أخرى مشابهة وهى الأورج .. صحيح إنها أصغر حجما لكن لها إمكانيات متعددة .. و كلما يسألنى أحد عن ما أتمناه تكون الإجابة واحدة .. أورج !
و فعلا حصلت على أورج يابانى جميل لا بأس به أبدا .. و به العديد من الإيقاعات و أصوات لآلات مختلفة بما فيها البيانو طبعا .. كان هناك أيضا سلم موسيقى كامل لأصوات الكلاب .. كان مُسجّل عليه أيضا العديد من المقطوعات الشهيرة لموتسارت و باخ و آخرين .. مازلت أهيم حبا بكل تلك المقطوعات الرائعة حتى الآن ..
كنت أتابع برامج الأطفال فى التليفزيون و كانت هناك برامج مخصصة لتعليم الموسيقى للأطفال و عرض مواهبهم .. كانت هى أول مرة أسمع فيها عن السلالام الموسيقية و( النوار )الرشيقة الجميلة و (الروند) الغليظة الطويلة .. و طافاطيفى طاطى .. تعلمت مبادىء قراءة النوتة الموسيقية .. و كان لدينا فى البيت نوتة موسيقية حقيقية بها مقطوعات لأغانى الأطفال الأجنبية .. لم أترك مقطوعة منها إلا و عزفتها .. حاولت بعدها أن أعزف موسيقى لأغانى أعرفها و أحبها .. كان الأمر صعب بعض الشىء .. لكن إستطعت فى النهاية عزف لحن أغنيتين واحدة لسيد درويش و الأخرى لعبد الوهاب بدون أى نوتة و بالجهود الذاتية .. ناهيك طبعا عن الكثير من الألحان التى كان الكثيرين يعزفونها فى تلك الفترة مثل تتر مسلسل رأفت الهجان ...
مرت سنوات .. و حدث فى مرة من المرات أن وصّلت الأورج بالكهرباء فصدرت منه أصوات عجيبة و توقف عن العمل .. رغم أنى من النوع الذى يهتم بالمحافظة على الأشياء بطريقة مبالغ فيها ..لكن لم أدرى أبدا ما هو سبب العطل و لم يعمل الجهاز ثانية حتى اليوم ...
انقطعت علاقتى بالعزف لسنوات عديدة حتى وصلت للمرحلة الثانوية .. و كانت هناك الأنشطة من المواد الأساسية و بها نجاح و رسوب .. كان هناك إختيار بين الرسم و الموسيقى فاخترت الموسيقى طبعا بلا تردد .. ناهيك عن إن مواهبى فى الرسم تحت الصفر ... و فى أول مرة دخلت فيها حجرة الموسيقى كان هناك العديد من الطالبات متجمعين حول عدد من الآلات الموسيقية و يتدربون .. و لحسن حظى لم يكن هناك من يجلس أمام البيانو فانطلقت نحوه كالصاروخ ! .. و حاولت أن أعزف الدنيا ريشة فى هوا و اندمجت جدا فى العزف و محاولة تذكر المفاتيح الصحيحة للحن ..
مرت السنة و تعلمت فيها مبادىء العزف على البيانو .. تعلمت أن كل زر له إصبع معين للضغط عليه و مش أى حاجة زى ما كنت بعزف مع نفسي .. تعلمنا العديد من السلالام الموسيقية المهمة و كيفية إستخدام اليدين فى العزف و عمل نوع من التوازن بينهما .. و انتهت المرحلة الثانوية لكن لم أصبح ماهرة فى العزف كما كنت أتمنى .. كل ما تعلمناه كان مجرد أساسيات .. حتى النوتة لم نتعمق فى دراسة تفاصيلها .. كنا فقط نعزف بعض المقطوعات البسيطة .. إجادة العزف على آلة معينة تحتاج إلى سنين من الدراسة الأكاديمية المكثفة .. لم أكن لأتمكن مثلا من عزف fur elise لبيتهوفن كما كنت أتمنى ! ..
دخلت الكلية و قضيت بها سنوات طويلة إنقطعت فيها علاقتى بالعزف تماما .. و إن كان يراودنى الحنين من وقت لآخر .. و منذ أكثر من عامين سافرت للقاهرة و حضرت ندوة فى ساقية الصاوى و كان هناك بيانو فى قاعة مجاورة جلسنا عليه لنعزف .. كانت تلك من أجمل لحظات حياتى ...
منذ سنوات عديدة تجمعت فتيات إسكندرية للإفطار فى رمضان عند احدي الصديقات .. و بعد الإفطار تجمعنا فى غرفتها .. و ذهبت لأنقب فى الأغانى الموجودة على الكومبيوتر لديها و شغلت أغنية لفرانك سيناترا .. جلست على الفراش بجانب النافذة أنظر للبحر و أشعر أنه قريب جدا حتى لو أنى مددت يدى لأسفل فسوف ألمس المياه المالحة .. غمرنا الصمت و أستسلمنا للشعور الجارف الذى غمرنا جميعا بسبب الألحان الساحرة .. إنها متعة الإستماع الجماعى للموسيقى .. كانت لحظات ساحرة ..
قرأت ذات مرة عن تلك السيدة الأمريكية الزنجية الفقيرة .. كانت تجيد عزف البيانو و كان لديها بيانو قديم متهالك .. كانت تدعو جيرانها الفقراء بدورهم و تعد لهم بعض المشروبات و المأكولات البسيطة .. يقضون الليل فى الإستماع و الإستمتاع بعزفها .. كانت تلك الجلسات هى متعتها الوحيدة و متعتهم الوحيدة ...
عثرت منذ سنوات على تلك المجموعة الرائعة من الألحان فى خضم بحثى الدائم على الإنترنت .. و كان بينهم ذلك اللحن الرهيب .. عزف منفرد على البيانو SOLO .. أصابنى ذلك اللحن بالجنون .. كان حجم الملف كبير فقمت بقطع جزء صغير ساحر من المقطوعة و أصبحت أوزعه على كل الموجودين عندى على الماسنجر .. فقط أردت أن يسمعه الجميع و يستمتعوا مثلى .. يمكنكم تحميل هذا الجزء الصغير من هنا ..
أتمنى أن أجيد عزف البيانو من أجل تلك الموسيقى .. فقط أن يخرج ذلك اللحن الساحر من بين أصابعى أنا .. أن أعزف لأشخاص أحبهم و يحبونى .. يشعرون باللحن مثلى و يستمتعون بما يسمعون .. لو تحقق كل هذا ثم مت بعدها بدقيقة واحدة أعتقد أنى سأموت و على وجهى إبتسامة راضية ..
هناك موسيقى أخرى .. ملحمة معزوفة بالكمان .. الساوند تراك الخاص بفيلم قائمة شندلر .. موسيقى مؤلمة حزينة كالذكريات و الآمال الضائعة المحطمة .. و كأن القوس يعزف على أوتار قلبك و ليس الكمان .. موسيقى يمكن لها أن تقتلك لو تركت لها العنان .. أتخيل نفسي كثيرا و أنا أحمل كمان و أعزفها .. أنا لا أفقه شىء فى قواعد العزف عليه .. لكن شعور داخلى يخبرنى أن أصابعى تعرف طريقها جيدا .. تفكير طفولى أحمق طبعا ..
أنظر لمقر ذلك المعهد و أفكر فى الدخول للسؤال عن نظام التعليم هناك لكن أحجم .. إذا كان أهلى معترضين على كورسات اللغة الفرنسية و يرون أنه لا فائدة لها فلن يوافقوا أبدا على كورسات فى الموسيقى .. حيقولوا خدى حاجة تنفعك أحسن !!
هى مجرد أحلام لن تتحقق أبدا .. ككل أحلامى البسيطة .. ربما يجب أن أتوقف عن الحلم أصلا .. لكن قاسية هى الحياة بدون حلم أو أمل ...
أوفيـــــــليـــــــــا .. بكل ما فى الكلمة من معانى ...
اعتقد الا مكان لكلماتي هنا فالافضل لها ان تكن بين التعليقات لتكن مناسبة لكن لابد لي من تعقيب بعد هذه الشذرات
اشكرك من اعماق روحي اينما تكوني وكيفما تكوني علي ذلك الاحساس الاثير الذي يجتاحني كلما قرات تلك الخاطرة الذاتية احساس كلماتي تعجز عنه لكنني اشعر به مزيجا من حنين وحزن وذكريات صبا واحلام بريئة بسيطة تاهت في نهر الحياة المتدفق بعنف وفي كل يوم يغير اتجاهه بصورة غير متوقعة او يمكن ادراكها
خاطرتك تلك ليست خاطرة ذاتية لانها تسمو عن تلك الصفة وترتفع لتغطي ليس فقط انت بل ذكريات واحلام الاخرين وكان لها ان تكون طي النسيان لا يراها الا قلة حيث هي الان الا انني اشعر ان بها من قبس الروح مما لا يجب استئثاره لانني اشعر اني احترق وحدي كلما تذكرتها لذا فلياخذ الاخرين من ذلك الوهج ..